علاقـــة الأب بابنتـه تحدد شخصيتـهـــا
ليست الأم وحدها المسئولة عن تربية الأبناء ، إنها مهمة مشتركة بينها وبين الأب ، ولأن البنت تتميز بحساسة مفرطة تجاه لجنس الآخر فوجود أبيها في حياتها يؤثر إما بالسلب أو بالإيجاب على شخصيتها .
"أنت مريضة بأبيك"، جملة لا تزعج اى ابنة، بل على العكس يفترض ان تضحكها وتشعرها بفرح كبير وقد يبدو جليا على تعابير وجهها حين تسمعها من أصدقائها بمجرد أن تتكلم عن أبيها وعلاقتها المتينة به.
وترى الابنةأن تأثرها بأبيها لا يقتصر على أمور محددة، بل ينسحب على الترابط الفكري والعاطفي، وأنه ساهم إلى حد كبير في تكوين شخصيتها وثقتها بنفسها وفي توجّهاتها العلمية والعملية.
هذه العلاقة الوطيدة التي تربط الابنة بوالدها تضعها في موقع المسؤولية ، "بالنسبة إليه،
و تعلق الابنة الشديد بأبيها وتقبلها لبعض الأمور السيئة في شخصيته، لا ينسحب بالنسبة إليها على صفات رجلها فى المستقبل، "والصفات المزعجة التي تقابلها في شخصية أبيها لا ترضى بها إذا ما صدرت من غيره، لذا تحاول الابنة قدر الامكان أن تتعلم منها لأختيار شريكا خاليا من هذه العيوب،وبموافقة والدها".
تؤكد المتخصصة في علم النفس في الجامعة الأميركية في بيروت مارجيت باسيل في ما يتعلق بغياب الأب عن الأسرة وعدم وجوده الدائم بجانب ابنته منذ مرحلة الطفولة، أن له آثاره السلبية التي تظهر على شخصية الطفلة في سنواتها المدرسية وعلى علاماتها المتدنية كما في حياتها الاجتماعية في ما بعد، موضحة أن "الدراسات أثبتت أن وجود الأب الايجابي في حياة الفتاة يساهم في تفوقها في المواد العلمية على عكس تلك التي تعاني من غياب والدها".
وتضيف باسيل أن غياب صورة الرجل المتمثلة بوجود الأب في حياة الفتاة ينعكس أيضا سلبا على تعاملها مع الجنس الآخر، إذ ستجد نفسها مرتبطة بأي شاب أو رجل تشعر بالأمان معه، وقد تتعلق به بدرجة غير طبيعية، محاولة بذلك التعويض عن صورة الأب المفقودة، متوهمة أنه يوفر لها الأمان والحماية اللازمة وكأنها لا تستطيع العيش من دونه، كما أنها قد تقبل بالخضوع لعلاقة تسيء إليها وإلى شخصيتها وتقبل الواقع من دون أي تمرد أو رفض.
استنادا إلى دراسات دقيقة ، تؤكد باسيل - حسب ما ورد بصحيفة الشرق الأوسط - ضعف شخصية الفتاة وفشلها في التعامل مع مديريها في العمل إذا ما كانت تعاني غياب الأب واحتضانه لها منذ صغرها، خاصة أن الأم مهما بذلت من جهد لن تعوض مكانة الأب ودوره الطبيعي.
من جهة أخرى، لا ترى سمر (20 عاما) أي تأثير ملحوظ، أو ذي أهمية في علاقتها مع أبيها، ساهم بشكل مباشر في تكوين شخصيتها، "بل على العكس ربما شخصية أبي التقليدية التي جعلته يظن أن دوره يقتصر على وجوده إلى جانبنا لتأمين ما نحتاجه بعيدا عن أي علاقة حميمة تذكر، ساهمت إلى حد كبير في مواجهتي الصعاب في علاقاتي الاجتماعية، لاسيما مع أصدقائي من الجنس الآخر إلى أن استدركت الأمر وعرفت مكمن الضعف وتمكنت من تخطي المشكلة".
هذا الوضع جعل سمر تأخذ موقفا قاسيا من أبيها في مرحلة المراهقة إلا أن طبيعته الطيبة وإدراكها في ما بعد أنه لا يتصرف بهذا الشكل عن قصد أو عن سابق تخطيط إنما ربما نتيجة مجتمع اعتاد عليه، جعلها تتأقلم مع واقعها بشكل ايجابي بعيدا عن الحقد أو الجفاء.
وتقول سمر : "ولكن لا يغيب هنا دور أمي الفاعل، فعلاقتي بها منذ الطفولة توطدت أكثر في مرحلة البلوغ، وتميزت بخصوصية ساعدتني على الاستعاضة، ولو بدرجة محدودة، عما فقدته في علاقتي مع أبي. فهي حاولت منذ البداية أن تكون قريبة مني ونجحت في ذلك في جميع مراحل حياتي حتى أنني أعتبرها اليوم صديقتي التي لا أخفي عنها شيئا، وتتقاطع أفكاري وآرائي معها في أمور عدة، وان اختلفنا في بعض الأحيان نتصالح بعد دقائق، ونصل إلى نتيجة مرضية بسرعة، فلا تتحمل إحدانا استياء الأخرى".
وهنا تؤكد الدكتورة الهام شعراني، المتخصصة في علم النفس، أنه في حين لا توجد قواعد ثابتة في ما يتعلق بأسس العلاقة بين الفتاة ووالديها نظرا لاختلاف المحيط الاجتماعي، تبقى العلاقة الثلاثية بين الفتاة والأم والأب هي الأمثل لجميع الأطراف ولدينامية الأسرة السليمة التي تساعد الطفلة لتكون في ما بعد في عالم الوعي والمسؤولية. فالأم التي تتسم علاقتها بابنتها بخصوصية لأنها مبنية على تجارب شخصية، تمنح الفتاة هويتها الجنسية لتهيئها كي تكون امرأة وأمّا في المستقبل، ويشكل الأب من جهة ثانية نواة صورة الرجل، وأول مشاعر الحب الحقيقي للجنس الآخر في ذهن الفتاة والمرجع أو السلطة لها ولعائلتها بشكل عام.
وترى شعراني أن تقرب الفتاة الشديد من أبيها لدرجة توليه دور الأم يؤدي إلى نتائج سلبية وغير صحية اجتماعيا كما في حالة تقرب الصبي من والدته. "لذا على الطفلة أن تتماهى بأمها وتتعلق عاطفيا بوالدها، والعكس صحيح في حالة الطفل".
وتشير شعراني إلى أهمية وعي الأم كي تقوم بدورها على أكمل وجه، تاركة للفتاة هامش بناء شخصية مستقلة، "من الضروري أن لا تصبح الفتاة ممتلئة بمشاريع والدتها وفارغة من مشاريعها الخاصة، وأن لا تتجاهل الأم دور الأب أو تحاول أن تلعب دوره فتغيب بذلك صورة الجنس الذكوري، المفترض أن تبنى بموازاة صورة الأم والأنثى، مما قد يؤدي إلى خلل في حياتها الاجتماعية وفي علاقاتها مع الجنس الآخر في ما بعد. كما أن وجود الأب ووظيفته الفاعلة في صلب العملية التربوية هو عامل فصل بين الأم وابنتها كي يحد من إمكانية ذوبان الفتاة بأمها، فترى من خلاله صورة كاملة وسليمة للرجال بشكل عام وأسس اختيارها لزوجها في المستقبل بشكل خاص".
من ناحية أخرى أظهرت دراسة أجريت في جامعة فاندربيلت بولاية تينيسي عام 1999، ونشرت في مطبوعة "جورنال أوف برسوناليتي آند سوشال سايكولوجي" ، أن طبيعة علاقة البنت إبان مرحلة الطفولة مع أبيها يمكن أن تحدد معالم شخصيتها مع دخولها مرحلة المراهقة ومن ثم النضج.
ولحظت الدراسة أن البنات اللواتي تمتعن بسند عائلي قوي وحميم من آبائهن وأمهاتهن يتأخر نضج شخصياتهن، بينما تنضج في مرحلة مبكرة أكثر اللواتي يعشن مع أب وأم علاقة عائلية باردة أو متباعدة عاطفياً.
العينة المسحية لهذه الدراسة شملت 173 فتاة من عائلات تعيش في مدينتي ناشفيل ونوكسفيل بولاية تينيسي ومدينة بلومينغتون بولاية إنديانا ورصدت أوضاعهن من صف الحضانة (الروضة) إلى السنة الدراسية السابعة (في المرحلة المتوسطة). وما لاحظته هذه الدراسة أيضاً أن تطور شخصيات الفتيات تأثر تأثراً عظيماً بنوعية الدور الأبوي في تربيتهن مع دخولهن مرحلة النضج. فالفتيات اللواتي تربين في عائلات ينقصها الأب أو عائلات مشتتة ضعيفة التضامن بلغن مرحلة النضج ـ مع كل مشاكلها ـ في وقت أقصر من الفتيات اللواتي نشأن في كنف عائلات عطوفة وحادبة ومتماسكة. ومع أن دور الأم كان مهماً في الحالتين كان لافتاً جداً إسهام الأب أو غيابه في خلق الجو العائلي المحيط بالفتاة وبتبلور شخصيتها